الفصل الثالث
في المساء
وقبل الغروب بلحظات وصلت رسالة الحمام... وهي تقول... :” من هنا من قلب المدينة التي لازلتُ فيها
ابحث عن معالم وجهي… مدينة حيث تُنحر الورود فيها…والقمر الخرافي لم يبتسم لنا بعد
منذ زمن…كل شيء يبدو متوجهاً نحو الانزلاق هاهنا…حتى اولائك الباحثون عن التنفس…وهم
يتقطّعون.. وأنا. ألتحم!!
الآن
..!!!اسمع صوت الرعد…ولكنه ليس رعداً قادماً من السماء…بل قادماً من فوهات الموت
التي نصبت لنا عمداً…يريدون إن تمطر السماء دون سحب…ليس قطرات المطر…ولا ذلك
الرذاذ الذي ينعش الروح…أو هتان رباني….بل قطرات من غازات السموم…ورذاذ من
بارود…وهتان ينزل علينا من السماء حمماً…تخترق أجسادنا…وتسيل دمائنا…نموت فلا يبكي
علينا أحدا.. فاذا وصلك كتابي هذا... فلا تبرح موقعك... وانتظرني بعد منتصف اليل
بــنصف ساعة فقط..
قبل انتصاف
اليل بلحظات... كنت التحفُ العُتمةِ لعلَي أقتبسُ بقايا من نور…الخطى تتثاقل..
وأصابعي تائهة …وأنا أتحسس الأرض لعلها تُنبتُ نوراً..ألثوان تيسر بطيئاً
…والدقائق تزحف وكأنها الآلاف الساعات..
أي طريق اسلك؟ وأنا أحاول إن أحبوا
إلى رتج الباب…؟!!
السكون مخيف
…لا شفق… لا قمر …لا نسيم..يبعث بزفراته إلى شطئان روحي..قلبي أصابه العمى وعينأي
تنتكس و خصلات الشعر المتدلية على جنبات وجهي... تأبى أن تتحرك …ويداي مثقله
بالكون..
لازال الوقت
طويلاً…ولازال العرق يتصبب على أنحاء جسمي... في لحظات سكون…لا اسمع فيها حتى صدى
همس أنفاسي
.. تباً لي
…!!!
لقد صرت
حبيساً بذلك الركن لا أقوى على الحركة... فلم تكن رجلاي مثقلة بالألم.. ولكنها لا
ترى..فهناك مسافة بعيدة يملأها الأفق المظلم بين عيناي وأقدامي..
إي قدرا يقود يداي إلى حافة العجز... وتبا لقلب
لا ترى عيناه طريقا. لا شيء يقطع الصمت ويكسر حاجز السكون... سوى طنين ذلك المخلوق
المقيت..
أي عينا وأي نور يملك؟!لا شيء يغريه سوى امتصاص بقايا دمي
فلا أقوى
على مجابهته... فهو يرى …وعيناي لا ترى .. تبا لذلك الحقير... الذي يصر على إذلال
جسدي ..
صمت..ترقب..استسلام...أي
نهاية ستكون؟!!
كان الليل
يبسط سكونه على الأفق.. في ساعاته الأولى عندما اقتربت هي من عين الكون...لتحجب
نور القمر... بلبسها الأسود الحالك.. الذي يغطي أطراف الكون وقوفاً من قدمي
الأرض... حتى صدر السماء..
كان كل شيء
في ذلك الليل البهيم ينذر بالسواد... كنت أتعجب وأترقب... أتعجب من سر هذا السواد
الذي حجب نور القمر... وأترقب متى يميط لثام الكون عن حجب الرؤية...حتى إذا سمعت
صوت الرعد وهزيم المطر.. خيل إلي أنني سأغرق في بحرين متضادين.. بحر السواد
المالح..وبحر السكون المخيف...
بدأ البرق
يلمع قليلاً... وبدت بعض خيوط الليل تنجلي... حتى إذا اقتربت ساعة التعامد بين ضدي
البحر... كان هناك صوتاً يهمس لي... أن ارفع راسك.. وانظر إلى أمامك... دون أن
تحدث أي ضوضاء أو ضجيج... أو تترك لعينيك أن تتكلم بصوت يرتد صداه في الأفق... حتى
لا نلفت انتباه النجوم والكواكب... إذا ما اقتربت وهي تتبع مصدر الصوت و النور...
كانت الساعة
تشير إلى الواحدة والنصف بتوقيت قلبي....وإذ بنوراً بدأ يشع من تحت ذلك السواد..
شيئاً
فشيئاً بدت ملامح النور الذي يسطع وكأنه بياض الكون... وأمام ناظري... لا يفصلهم
إلا وهج السماء وشفق أضاء ما بينهم كاد يذهب عقلي..
تساءلت أي
جنون هذا الذي أرى؟؟.. وأي عقل سيتحمل ذلك المشهد؟؟...إلا أن عقلي كاد يتبلد...
عندما تحركت خصلات الحرير الأسود...التي كانت منثورة على جناحي الأرض...لينكشف
غطاء السماء الأبيض الذي لم أرى مثله قط...
استمرت
الأرض بالدوران... واستمرت الشيلة بالارتقاء ببطء... تختبر قوة تحملي.. وصمودي
ثابتاً على الأرض... قدماي تجمدت في لحظة أحسست أن الكون يتزلزل من تحتي.. وأنا
انظر إلى ثغر الأسطورة..
الذي كنت
احلم نهارا وليلا ً أنني ارتشف منه الشهد... وأي شهد ذلك الذي ينسكب منه فجراً..
أي لغة
سأتحدث عنها.. وأي كلمات سوف تنقاد لقلمي...أي صوت سأبوح به...وأي صدى سيرتد
فجراً...هل اكتب بلغة العيون...أم اكتب بحروفٍ مشبّعة بلون المطر...؟!!
كنتُ منغمسٍ
في لذةِ المفاجئة...فاحتارت العيونِ أيهم اسبق من الأخر في النظر...تداخلت الأصوات
وأي صوتاً ...ذلك الذي ملئ امتدادات الجسد..يسري وكأنه صوت الروح والذاكرة...يتسلل
إلى نبضي..ليسري بين ثنايا الأوردة...كماءٍ في شرايين الأرض...معانقاً للروح.. كما
تعانق الشمس أفق الغروب... فكل شيء هنا خاص بها فقط... لغة.. وحبر... وصوت..
وحرف..ومعزوفة جمال... وورقه بيضاء... ونور قادم من عيني القمر..
لا ادري
لماذا إلى الآن ...لازالت الدهشة تكتسي أطرافي... والذهول يسيطر على حواسي... كلما
ظهرت في مخيلتي صورتها... وتلك اللحظات التي شاهدت بها أميرة الحلم والخيال... في
ساعة لا تتكرر ولا تعوض.. ساعة لن يكون لها مجال أن تمحى من ذاكرة الكون..
كل شيء كان
مدهش وفوق الخيال الذي استوطن لسنوات بذاكرتي. كل شيء لا أستطيع وصفه.. وأنا أقف
مذهولاً.. ومستسلماً..
مذهولاً من
ذلك الجمال الذي رأيت... ومندهشاً من عقلي وفكري الذي فشل في رسم صورة... بل
مستسلماً ومعترفاً أن خيالي لم يكن مصيباً... بل أن ما رأيت أكثر من قدرة خيالي
على التصور والوصف.
قلت لها :.
قد جئت أسري
في العيون مسافراً=شوقاً وعشقاً فيك يا أخت المطر
هل أخبرتك العين انك نورها =أم أنبأتك الروح انك مُستقر
أن تسألين النبض من اسر الهوى=سيقول أنتِ من لها يهوى النظر
قالت:
هل أخبرتك العين انك نورها =أم أنبأتك الروح انك مُستقر
أن تسألين النبض من اسر الهوى=سيقول أنتِ من لها يهوى النظر
قالت:
- أسألك..
هل الورود سهاها روائح العطـرُ…أم صدى همسك صار مدامٍ…اسكر الروح..
قلت لها:
أرى الودادُ
على سطر الهوى أملاً= همس ٍ ولمس ٍ وإحساس ٍ كما المطرُ
أطاوع الروح
أسعى للكلام ِ معك= سحراً هواكِ وكُل أسمائكِ
السحرُ
استمرت في
صمتها... حتى ساعات الفجر الأولى... واردت ان أبدد ذلك الصمت... فقلت لها..
-أتعلمي إن
هذا الصباح غير عن كل صباحاتنا السابقة
..ليس لأنه أجمل من سابقيه. ولكنه الأروع
..فقد تنفس صباحي… بكِ.. وبصمتك ..فكان لصمتكِ …بهاء ..يبدد كل ذهولي…
حياءٍ..وقار..وينثر على الكون ألفٍ… وألف سؤال .
فهل تسمحي
لي ..أعيدُ السؤال
فاني
أغار على الهمس من طول صمتك
وأشفق على
شفتيكِ… من الانتظار..
------------------
يتبع الفصل الرابع
بقلم صالح اليافعي